حلم بلا أعمدة وأهداب مبللة بالغبار

 ناجح المعموري

مقطع من كتابه “نافذة في المنفى” الذي ألفه عن كتاب “حلم بلا أعمدة” للشاعر صلاح الحمداني

.نافذة في المنفى ــ كتاب نقدي صدر عن مؤسسة أبجد للترجمة والنشر والتوزيع / بابل ــ العراق

 

هونْ عليكَ يا زمن

فليسَ كلُ منفيٍ

يمتلكُ برهانَ وطنيتِهِ. ه

 *************

 كيفَ اختمرَ الفرحُ مع المنفى

وكيفَ طرقَ بابيَ الفراغُ

والغثيانُ، من أدلٌهُ على مرآتي؟

 سألملِمُ الوعودَ التي أغرقتْها الألسُنِ الكاذبةِ

وأطمُرُها في روحي

فقد تعبتُ من قراءةِ التاريخِ

وانتظارِ عودةِ الوطنِ من شقوقِ المرايا. / ص 155// ه

 يتوسل الشاعر بالأزمنة كلها، وليس الواحد المحدد بفترة محددة، التوسل بالتواريخ المعروفة مع مجالاتها الاجتماعية وبكل ما انطوت عليه من مرويات مع خزان السرديات من أجل أن تتضح كل الوقائع التي سجلتها ذاكرة الزمن. ويلوذ الشاعر بالمرويات كي يؤكد على ان كل من غادر جغرافيته لم يكن منفياً، فليس من المؤكد أنه لا يستطيع البرهان على أنه لديه ما يشير إلى جغرافيته / وتاريخيته / إنها محنة صعبة ومعقدة ونوع من الثورة. ه

يثير الشاعر الشكوك حول كل منفي، لأنه يعرف جيداً بأن الكثير منهم لا يقوى بالتلويح إلى زوايا الوطن ورائحة طينته. لكن الشاهد يتقوى بالأدلة التي تومئ لأصل الكلمة المرتعشة بالسري الخاتل في المسكوت عنه، ويظل ملوحاً لاحتمالات حضور المنفي، ويمارس طياته. ه

ما يستوعبه المنفى والاسباب المؤدية له. هو الضروري الكامن والحضور اللازم في لحظات الترقب والانتظار الطويل منذ اشتعال الهروب لا يغدو / الجغرافيات طريقاً مبتكراً للخلاص، ومن حق الافراد او الجماعات التي تضطر الانحراف بما يشبه الوهم نحو مسير معين. حينها ينتبه الإنسان للقبول الذي يتعايش معه الإنسان وسط العري الصحراوي. الصحراء لوذنا ونتصيد ما فيها من حدائق حسية ونتسابق احياناً لالتقاط الانثى التي هي الحلم بالنسبة لنا، لأنها التي تبتكر النص / الشعر وتدعونا للاستيطان فيه واظل منذهلاً ومندهشاً بما قاله الشاعر : سأغويها واقودها للصحراء، ويحفزني صوت الشاعر وقوة إيقاعه للقول وأهرب بها إلى حيث تنفتح النافذة المغلقة وتحتوينا معاً حتى الغروب، لكني اشعر بالخوف والاضطراب والقلق والفزع لأن النافذة أتسعت وأستوعب صوت أمي وكل النساء لحظة الغروب وهن يرددن الحزن والمجاعة صراخاً وليس لديهن أفضل من هذا الذي اعتدن عليه وهن ينتظرن بكائيات الرجل الداعية لحلم تعطل بالحرب وترك بقايا الرجال المحترقة ولم يعش أحدهم حديقة حلمه. ه

الصحراء رحم أمومي يعطي منفتحاً. ويتكتم متستراً بمعنى هي مرويات سرية قادرة على حفظ أسرار من كان قبل أزمنة لان ذاكرتها وديعة محفوظة لمن يختارها لاحقاً. ه

شعرية صلاح الحمداني ابتكارية / استدعائية، تظل نابضة بالطاقة التي تحتاج الأنوثة الملوحة لنا ونحن بالانتظار. ه

صلاة الظهيرة، طقس النساء / الامهات المفجوعات بالغياب ومغادرة الحبيب : وهذه قسوة ضاغطة تثير في أعماق الهم الموجع والألم والأنين، لذا طش صلاح ورموزه الدالة على الأم وهي من مستلات البدئية العميقة مثل الحمامة والأرض في فضاء الدار للحوار معها بعدسات الأرز، هذا ما كانت تقوم به الأم وتظل بانتظار مجيء المطر، وواضح للقراءة بأن نصوص صلاح عن الأم كثيرة، مشحونة بالقلق والتوتر لأنها منكسرة ومخذولة، تفوح منها توترات الجسد المتيبس وكأنه قطعة صحراوية. الأم حلمها البلل المقترن مع قدوم المساء // ولكن يا ترى / لماذا كانت أمي تبكي كلما جاء المساء؟ / ص140// ه ه

وتقع الكارثة التي لا تختلف عن صدمة الحرب وتساقط السلم، واقترن كل هذا مع فعل الصبي الذي قطع زهرة في لحظات ذلك الصباح. ولم يكتفي، بل ظل يزاول عبثيته الطفولية مداعباً وملاحقاً اجنحة الفراشات في الحديقة وهي تتساقط نتفا ملونة. ه

يعاود الأبن حنينه للأم الموجوعة في المساءات وهي ترى حلمها يتساقط أعمدته وهي تترقب بلل جسدها وعطشها الخفي. لم يفارقها، بل داوم بخيبة، معبراً عن حزنه / أنا لستُ حزيناً يا أمي، أنا سأموت من القهر / ص144// ه

ويؤسس صلاح الحمداني مروية ثنائية من الأم والأب، الأم هي الابتداء والأب هو الثنائي وتبرز ثنائية ملحمية ترسم صورة الجنوب بكوارثه ومجاعاته : ه

 رقصوا لغيابي

بينما كنتُ أكتبُ في طريقي

على الأشجارِ العارِيَةِ

كلماتٍ لا تنالُ منها قسْوَتُهُمْ : ه

أنا، الصّبِيُّ الجنوبيُّ

في الثالثَةِ من عمري

ما زلتُ أركُضُ يومياً

إلى حيثُ مكانِ أبي الذي قبروهُ حيّاً

أنْبِشُ رَمْسَهُ بيديَّ الصّغيرتينِ وأخاطبهُ : ه

لا تجزعُ يا أَبَتِ

ولا تخرجَ مِن قبرِكَ الآن

فلم يغادَرَ الذين دفنوك حياً هنا... ص145// ه