القيمة الرمزية
في نصوص الشاعر العراقي صلاح الحمداني
كتابة : علاء حمد
من مؤلفات الشاعر علاء حّمد
قبّعة اّللامحدود، أنطولوجيا قصيدة النثر، القيمة الرمزية في نصوص الشاعر العراقي صلاح الحمداني / من صفحة 45 إلى صفحة 55
الطبعة الأولى : 2022، منشورات تأويل للنشر والترجمة ، بغداد العراق.ه
تعتبر القيمة الرمزية من اتجاهات الشاعر الذاتية، وهي خصوصية الرموز التي يتبناها الشاعر والتي تدور حول فلكه، وإذا قسمنا الرمزية فهناك عدة اتجاهات ومنها مثلا، الرمز الأسطوري والرمز الديني ورمزية الألوان، هذه الاتجاهات تتعدد في النصّ الشعري واتجاهاته نحو الرمزية، لذلك فإنّ الشاعر يتخذ بعض الرموز الخاصة به، وهي خصوصية الذات واتجاهها الرمزي، فالعوالم التي تحولها الذات هي عوالم طبيعية وتتحلّى بالبعد المباشر، ومن هنا نستطيع أن نتجه نحو النسق الرمزي من خلال الدلالات المتحولة من المنظور السياقي الأساسي، إلى منظور سياقي تعددي تعبيري، يعتمد الانزياح باتجاهات جديدة معتمدة على أبعاد رمزية مختلفة ضمن لغة الاختلاف أيضا. ه
من القيم الرمزية في النصية؛ القيمة التهيئية بمرحلة اختبارية، وماذا نعني وراء ذلك عندما ندمج التهيئية بالاختبارية، فالأولى قيمة الرمز حسب حاجته؛ وقيمة الرمز حسب التصورات التي يدخلها الباث عادة في مفهومه النصّي، بينما العلاقة التي تفرضها الاختبارية، مدى الدمج في مختبر واحد بين البنية الرمزية وتهيئة فعل التخييل وحركته إلى جانب التصورات التي يعتمدها الشاعر. ه
إنّ للبعد الرمزي خاصية تقودنا في بعض الأحيان إلى التجريد الفعلي، وتظهر من خلاله المحسوسات والأبعاد المادية، ويكون للبعد اللغوي المرافق لهذه الخاصية طاقة كامنة في السياق النصّي تعمل على هدم اللغة العادية وإعادة بنائها من جديد، فيكون للنصّ والنصية اتجاهات مستحدثة من ناحية الأنساق التركيبية الجديدة، وفي طبيعة الحال تكون للرمزية الحصّة الكبرى من ناحية الكلّ النصّي، وفي حالة التجزئة يقودنا الجزء إلى المنظور الرمزي والعلاقة القائمة بينهما، علاقة تغيير، أي من الممكن التحول من الرمزية إلى عمل نصّي آخر في الجزء الذي يليه :. ه
حيطاني قناديل بلون سياط الجحيم
سائل بلون وجهي بعد الليل
يذوب الصمت
فوق الطاولة
ثمّة سماء
عيون عوراء
ورأس منكفئ
نهر ترتوي منه الأفاعي
المحلّقة في كهوف العيون
الباب مغلق
الغائب حاضر
الشارع ينتظرني
وعاهرات ينجبن عقارب
بحجم الوديان التائهة في عقلي
من قصيدة: فوق الطاولة، ثمّة سماء – ص 16 – فوق الطاولة، ثمّة سماء
تؤدي الرمزية إلى تماسك النصّ الشعري وتبعثه إلى معاني مختلفة، وبما أن النصّ عبارة عن صورة شعرية مكبرة، إذن أحد عناصر التماسك النصّي هي الرمزية، وبما أنّ الصورة الشعرية إحدى جزئيات النصّ، فتكون الرمزية مطعمة بها، وتشكل ثقلها الجمالي. ه
حيطاني قناديل بلون سياط الجحيم + سائل بلون وجهي بعد الليل + يذوب الصمت = فوق الطاولة + ثمّة سماء + عيون عوراء + ورأس منكفئ + نهر ترتوي منه الأفاعي + المحلّقة في كهوف العيون + الباب مغلق + الغائب حاضر + الشارع ينتظرني + وعاهرات ينجبن عقارب + بحجم الوديان التائهة في عقلي. ه
العالم الذي يحمله الشاعر من العوالم الممكنة، وقد يكون هذا العالم لايناسب الآخر، وقد يحوي على الغرائب، فهو عالم أتقنه الشاعر ويشكل الضفة الواقعة على متن النصّ الشعري؛ ومن الطبيعي أن تكون الغرائبية إحدى مكونات هذا العالم وذلك لمهمة النسيج المدهش الذي تحويه مهمة العالم لكي يصل إلى حدّ التأثر بالوقعة المنقولة. ه
اعتمد الشاعر على تراكيب بنيته النصية، معتمدا على لغة رمزية؛ فالمفردات التي اختارها هي مفردات طبيعية، فلو أخذنا الجملة الأولى : حيطاني قناديل بلون سياط الجحيم.. نلاحظ الجملة تغيرت بمعاني وأدت إلى التأويل بواسطة الرموز التي نسجها في نسيج الجملة، ولكي يجعل من تلك الرموز امتدادا للجملة الشعرية راح يميل إلى الرمزية الذاتية، وهي حالة من حالات فعل المتخيل في الذات الحقيقية تردع الخارجي وتعتمد على الابتكار الرمزي الداخلي، نلاحظ أن الشاعر اعتمد حالات التشبيه، ولكنها من الحالات الغريبة التي اعتنقت النصّ، قناديل بلون سياط الجحيم، سائل بلون وجهي بعد الليل.. يذوب الصمت، وعند ذوبان الصمت كانت نتائج، ومن نتائجه المرسومة : فوق الطاولة، ثمة سماء. هذه الخصوصية رمزت إلى المعنى الذاتي وقد اعتمد على الوظيفة التخييلية Imaginative Function، وهي الوظيفة التي تظهر من خلال الانفعالات أيضا، ومدى التناسب بين الشيء والمعنى، مثلا: عيون عوراء، ورأس منكفئ، نهر ترتوي منه الأفاعي، جميع الكلمات التي وظفها الشاعر كانت من خلال منظور مادي، وهي ضمن الأشياء المنظورة ومنها العيون والرأس والنهر والأفاعي. ه
الأزهار هذا القرف
الغابات أذرع مسلوخة
والمطر ملح يُسكب في ندوب الطفولة
الزرقة ـ الزرقة
عندما أرقد
أشباحي تعدّ القناني المكتظة بالأقزام
الجلد مختلط بماء الهجرة
غطائي أسنان وعناكب
عفاريت ودم مذبوح
وخيول تحمل الوقت أكياساً
تضعها في كهوف ذاكرتي
وتقتلع جلدي راية
لحظائر البشر
لاتنسى
اجلب لي معك كفّاً من رمال البحر في جيوبك
ومع خفافيش السأم
كلمات للصيف
من قصيدة: فوق الطاولة، ثمّة سماء – ص 16 – فوق الطاولة، ثمّة سماء
إذا أخذنا الصورة الشعرية ومحمولاتها الرمزية، فسوف نلاحظ أنّ الصورة الشعرية نصّ منفلت غير قابل للسيطرة، وذلك بسبب تأسيسها اللاشعوري وانطلاقتها في لغة الأحلام والتي تكون الرمزية واحدة من التنشيط التصويري لهذا الانفلات؛ لذلك تخرج لنا وهي تحمل نوعا من التجريد تارة، ونوعا من الدهشة، وذلك لتأثير منطلق الرؤيا في الصورة الشعرية. ه
،الأزهار هذا القرف + الغابات أذرع مسلوخة + والمطر ملح يُسكب في ندوب الطفولة = الزرقة ـ الزرقة عندما أرقد + أشباحي تعدّ القناني المكتظة بالأقزام + الجلد مختلط بماء الهجرة = غطائي أسنان وعناكب + عفاريت ودم مذبوح وخيول تحمل الوقت أكياساً + تضعها في كهوف ذاكرتي + وتقتلع جلدي راية ـ لحظائر البشر. لا تنسى + اجلب لي معك كفّاً من رمال البحر في جيوبك + ومع خفافيش السأم ـ كلمات للصيف. ه
عندما تتوسع المفاهيم في ذهنية الشاعر، من الطبيعي سيكو للأثر الرمزي فعاليته بين الجمل الشعرية، بل سيكون الفعل المحرك للجملة ويتجه باتجاهات عديدة منها الاتجاه اللغوي باعتبار أن اللغة ضمن الرمزية وهي تعتمد الإيحاء، ومنها الغموض ومساحة الخيال القصوى، حيث ينفرد الشاعر في بناء النصّ برغبة منه في الانطلاق والابتكار. ه
اعتمد الشاعر صلاح الحمداني في قصيدة ( فوق الطاولة، ثمّة سماء ) على الرمز الجزئي، حيث اعتمد البناء الذاتي، ويتطلب في هذه الحالة إيجاد بعض الرموز لكي يدفع النصّ الشعري إلى التأويل قبل كلّ شيء وإلى الجمالية التي ترافق التأويل في عملية البناء الفني، ومن هنا ظهرت الأحاسيس الداخلية وهي تندفع نحو البعد الجمالي؛ وفي نفس الوقت كانت أشياء الشاعر هي التي توحي بالرمزية ومنها في المقطع الأول : الأزهار، الغابات والمطر، لكنه عندما استخدم التراكيب تغيرت المعاني برمزية جماعية في كل جملة قصدها. وعناصر التوضيح التي تعلقت مع الرموز كانت كفيلة بتفكيك النصّ لكي تتبين المعاني أكثر، حيث تشكلت نوع من العلاقات، بين المفردات من جهة وبين الجمل الشعرية من جهة أخرى؛ وتقودنا هذه العلاقات إلى تفرد الواقع الحسي لدى الشاعر، مثلا : وخيول تحمل الوقت أكياساً. فتشكل مفردة الخيول الدال الذي يقودنا إلى الذاكرة ( تضعها في كهوف ذاكرتي )، ونفس الخيول جعلها وسيلة لكي يحول جلده إلى راية؛ تعبر هذه المسالك على تشاؤم الشاعر وما حوله من اضطهاد أولا، وما يعانيه في المنفى ثانيا. ه
إنّي رجل يركض في دهور التأخر
في قعر الظلمة
رأيت كلباً إنسانيا مجروحاً
الدم يسيل من عينيه
مثل حوافر مفزوعة
تهشم وجه رضيع المطر الزجاجي
رماد الليل الغائص
في لحم الندم المفجوع
في نهر الجسد العاري
ومقبرة الظلمة
حصن يرتجف بين الأكتاف
قلق يترنح في رواق الغياب
آخر شيء سأشحذه من اللامعقول
هو الكتابة بعنف الجنون
قصيدة: عَداء – ص 22 – فوق الطاولة، ثمّة سماء
يعتبر التصوير الاستعاري والتشبيهي وكذلك تحول الأشياء؛ سيل من الرمزية تحنط النصّ الشعري وتقبض على معانيه، ومن هنا تتوسع مدارك الشاعر، ويتجلى المنظور النصّي بمفاتيح من التصورات المفتوحة، لذلك ومن خلال اللاشعور نلاحظ أن الشاعر يدخل هذه البحار وهو يبحث عن الوعي من خلال اللاوعي الكتابي، واللاوعي التفكري في النصّ المكتوب. ه
إنّي رجل يركض في دهور التأخر + في قعر الظلمة = رأيت كلباً إنسانيا مجروحاً + الدم يسيل من عينيه + مثل حوافر مفزوعة + تهشم وجه رضيع المطر الزجاجي، رماد الليل الغائص + في لحم الندم المفجوع + في نهر الجسد العاري + ومقبرة الظلمة = حصن يرتجف بين الأكتاف + قلق يترنح في رواق الغياب، آخر شيء سأشحذه من اللامعقول + هو الكتابة بعنف الجنون. ه
تتجه الرمزية في الكثير من الأحيان إلى تجريد الأشياء من صفاتها المباشرة، وتقيم علاقات جديدة لإيجاد دلالات أكثر حركية لغرض تراكم المعاني، ومن هنا يكون للرمزية نسيجها الموضوعي مع اللغة، اللغة التي تتداخل مع بعضها باختلافات عديدة: ه
إنّي رجل يركض في دهور التأخر + في قعر الظلمة.. جملتان شعريتان، الواحدة تسند الأخرى لذلك رسمت عللامة ( = ) عندما انتهيت من نقلهما، فالمتمم لهما كأنها نتيجة من نتائج الاستعارة التي اعتمدها الشاعر، لذلك نستطيع أن نصيغ الجمل بتركيبة جديدة وهو التلاعب باللغة، وهذا ماسمح لنا به الشاعر أن تكون نصوصه بالشكل المطلوب: ه
في قعر الظلمة = رأيت كلباً إنسانيا مجروحاً
إنّي رجل يركض في دهور التأخر = ( لذلك ) رأيت كلباً إنسانيا مجروحاً.. تتواجد المفاهيم داخل الكلمات، ككلمات مفردة، ولكنها سرعان ماتتحول وتنجرّ خلف مفاهيم جديدة، ومنها الموضوعية ( تحويل المعنى إلى موضوع )، ومنها الاستنتاجية ( وراء كل جملة شعرية إما امتداد أو نتيجة استفهامية )، ومنها الاستدلالية التي ترافق التأويل؛ لقد بين دي سوسير في كتابه ( الدروس ): ( أن الكلمات تشكل نسقا يأخذ كلّ عنصر فيه قيمته ومكانه بالنظر إلى العناصر الأخرى " [1] " ). ه
تستقطب الحقيقة وواقعها المنظور النظام الرمزي، حيث يكون لكل تعبير عن الواقع الحقيقي رمزا، وهو التبدلات التي تطرأ في نظام النصّ الشعري في حالة الخلق؛ ونلاحظ المقاطع الأخيرة : رماد الليل الغائص، لحم الندم المفجوع ونهر الجسد العاري.. إن الشاعر صلاح الحمداني اعتمد الرموز من خلال الاختلاف اللغوي، كأنه رسم خصوصية لكتابته، وقد أدت هذه الخصوصية إلى الأسلوبية التي بقي يتجه وينقش وينقب بما يلائم النصّ والنصّية. ه
[1] - ص 130 – علم الدلالة – بير جيرو – ترجمة د. منذر عياشي